فيما كان اللبنانيون ينتظرون جلسة تشريعيّة لبتّ سلسلة الرتب والرواتب، التي رُحّلت لأجَلٍ غير مسمّى بعدما أخفق مجلس النواب في حسم أمرها، وفيما يطمح العديد من النواب لجلسة "تمديدٍ" جديدة، بمعزلٍ عن تسميته بين "التقني" و"الضروري"، تشهد أروقة ساحة النجمة يوم الخميس المقبل على مشهدٍ افتقدته طويلاً، رغم أنّه افتراضيًا، في صلب عمل ممثلي الشعب وواجباتهم.
هي جلسة مناقشة عامة للحكومة. في الظاهر، العنوان مغرٍ وجذّاب. إلا أنّه يفتح المجال لعلامات استفهامٍ بالجملة، فمن سيناقش من، ومن سيحاسب من، إذا كانت مكوّنات المجلس هي نفسها مكوّنات الحكومة؟ وأبعد من النقاش والمحاسبة، هل تمهّد هذه الجلسة فعلاً لجلسة التمديد، التي تُطبَخ على نارٍ حامية لتبصر النور في "أسبوع الآلام"، كما ألمح أكثر من قياديّ ومسؤول في الساعات الأخيرة؟
جلسة مزايدات...
في المبدأ، وبغضّ النظر عن كلّ التفاصيل والدهاليز، لا شكّ أنّ عقد جلسة مناقشة عامة للحكومة بعد أربعة أشهر على تشكيلها هو أمرٌ يفترض أن يكون من البديهيّات، باعتبار أنّ النظام البرلمانيّ يفرض على المجلس النيابي أن يراقب عمل الحكومة ويسائلها ويحاسبها عند اللزوم، بدل أن تترَك الأمور "سائبة" كما درجت العادة في لبنان.
إلا أنّ هذا المبدأ مرتبطٌ، كما يرى كثيرون، بوجود معارضةٍ حقيقيةٍ في مجلس النواب مخوّلة بالمساءلة والمحاسبة، انطلاقاً من المعادلة الشهيرة "سلطة تحكم، ومعارضة تعارض"، ولكن في التركيبة اللبنانية، قد يكون من الصعب الحديث عن موالاة ومعارضة بالمعنى الدقيق للكلمة، بعدما "ذابت" الأولى بالثانية، وتحوّلت الحكومة إلى "نسخة مصغّرة"، وغير منقّحة بالغالب، عن مجلس النواب.
هكذا، إذا ما استثنينا حزب "الكتائب"، الذي أحرِج فأخرِج من الحكومة في اللحظة الأخيرة، والذي لا يزيد عدد نوابه عن الخمسة أصلاً، إضافة إلى بعض النواب المستقلّين، والذين لا يتخطّى عددهم أصابع اليد الواحدة أيضًا، يمكن القول أنّ أول مواجهة بين الحكومة والمجلس هي في الواقع مواجهة بين الأحزاب المكوّنة للسلطة ونفسها، بل إنّ بعض الشخصيّات المفترض بها محاسبة الحكومة هي نفسها موجودة في مجلس الوزراء، طالما أنّ مبدأ فصل النيابة عن الوزارة غير مطبّق لدى معظم الأحزاب، من "تيار المستقبل" إلى "حزب الله" و"حركة أمل"، مروراً بـ"الحزب التقدمي الاشتراكي" وغيرهم.
إلا أنّ هذا الواقع لن يقلّل من زخم الجلسة، طالما أنّ "المغريات" جاهزة وغبّ الطلب، وأولها أنّ الجلسة المرتقبة ستكون منقولة مباشرةً على الهواء، ما يعني أنّ اللبنانيين سيشهدون "سوق عكاظ" نيابي بكلّ ما للكلمة من معنى تحت عنوان مناقشة الحكومة، سيكثر فيه طالبو الكلام، من الموالين قبل غيرهم بطبيعة الحال، منعًا لتوظيف المعارضين لموقعهم لتحقيق بعض "الشعبوية"، كما حصل في جلسة السلسلة الشهيرة، ولو كان ذلك حقّهم المبدئي والطبيعي.
ولا يخفى على أحد أنّ الكثير من هؤلاء بدأوا الإعداد لـ"مبارزاتهم ومزايداتهم"، بل لسقوفهم المرتفعة، خصوصًا أنّ الانتخابات، وإن بات تأجيلها محسومًا، تبقى على الأبواب. وقد تكون المواقف التي صدرت عن وزير التربية مروان حمادة قبل يومين، والتي انتقد فيها بشدّة الحكومة، التي هو جزءٌ منها، "بروفا" لما ينتظرنا في هذه الجلسة، علمًا أنّ حمادة كشف أنّه كان على وشك الاستقالة أو الاعتكاف، ولم يتوانَ عن الهجوم على "شركائه" في الحكومة، سواء بالمباشر أو المواربة.
نجم الجلسة...
عمومًا، يمكن القول أنّنا أمام جلسة مناقشات ومزايدات لن ترقى لمستوى طرح الثقة بالحكومة بطبيعة الحال. أما مقوّمات هذه الجلسة فتكمن في مجموعة ملفات من شأنها أن تشكّل مواد أكثر من صالحة للنقاش والتمحيص، انطلاقاً من الأداء الحكومي خلال الأشهر القليلة الماضية، بدءًا من التضامن الحكوميّ الذي لم يظهر في أحسن أحواله على أكثر من مستوى، مروراً بمقاربة الحكومة لقضايا أساسية وخصوصًا في ما يتعلق بملفات الغاز والنفط، ولا سيما الكهرباء، في ضوء الخطة التي تمّ إقرارها مؤخرًا، والتي أثيرت حولها الكثير من التحفّظات والملاحظات، حتى من داخل الحكومة نفسها، كما حصل عندما ألمح البعض إلى أنّ القرار الذي صدر بشأنها في الجريدة الرسمية أتى "مزوّراً".
حتى "الإنجازات" التي تباهت الحكومة بتحقيقها ستحضر في الجلسة من باب الانتقادات والمزايدات، على غرار التعيينات العسكرية والقضائية، خصوصًا لجهة الآلية التي اعتُمِدت في إقرارها والتي أثارت أكثر من علامة استفهام، وكذلك الموازنة وسلسلة الرتب والرواتب التي بقيت "عالقة" على أدراج مجلس النواب. وستكون الجلسة أيضًا فرصة لتبادل "الرسائل السياسية" التي تخدم الأفرقاء انتخابيًا، ولذلك سيصوّب المتضّررون من العهد "القوي" عليه، وسيحضر استعراض "حزب الله" الأخير في كلمات نواب "المستقبل" حتى قبل الوزير السابق أشرف ريفي والنائب خالد الضاهر، تمامًا كما ستحضر "خطيئة" الرسالة "الخماسية" في كلمات الثنائي الشيعي.
ولكن، رغم كلّ هذه الملفات، لا شكّ أنّ قانون الانتخاب وحده سيشكّل "نجم الجلسة"، ومن دون أيّ منازع، خصوصًا في ضوء وجود وجهة نظر يتبنّاها بعض من في الحكومة عن تقاعسٍ من جانبها في إعطاء هذا الموضوع أولويتها، رغم أنّها وُصفت عند تشكيلها بحكومة الانتخابات، علمًا أنّ بعض الأحزاب المكوّنة لها سبق أن طالبوا رئيسها سعد الحريري بعقد جلسات "مفتوحة" لا تنتهي إلا بإقرار قانونٍ انتخابي يتمّ تحويله إلى الهيئة العامة في مجلس النواب لدراسته، والتصويت عليه وعلى سائر مشاريع القوانين إذا اقتضى الأمر ذلك.
ومن هذا المنطلق، سيحرص مختلف الأفرقاء على إعادة تظهير وجهات نظرهم من قانون الانتخاب في جلسة المناقشة، لرمي كرة المسؤولية عن التقاعس الحاصل على خطّه، عشية استنفاد كلّ المهل الدستورية والقانونية، على عاتق القوى الأخرى، علمًا أنّنا دخلنا عمليًا في ما وصفه وزير الخارجية جبران باسيل وغيره بـ"أسبوع الآلام الانتخابية"، وكان لافتاً في هذا السياق خطاب "ليتهم سمعوا منّي" الذي خرج به رئيس المجلس النيابي نبيه بري في الساعات الأخيرة، مذكراً بالسلّة المتكاملة التي كان قد طرحها قبل انتخاب الرئيس. ولكن، في الموازاة، لا يبدو أنّ أيّ تغييرٍ طرأ على المواقف "الانتخابية"، التي لا تنبئ بوجود رغبة جدية بالتخفيف من التباعد الحاد في المواقف بين هذا الفريق وذاك، والتي لا تزال تراوح نفسها حتى في ما يتعلق بـ"المبادئ"، وليس فقط بـ"التفاصيل حيث تكمن الشياطين".
"مسرحية على الشعب"!
في بلدٍ تذوب فيه الموالاة والمعارضة، وتغيب كلّ التصنيفات الرئيسية والفرعية، تصبح جلسة المناقشة العامة للحكومة حفلة مزايداتٍ في أحسن الأحوال، يسعى كلّ فريقٍ لتقوية أوراقه من خلالها، من أجل رفع شعبيّته أمام الرأي العام.
هذا في أحسن الأحوال، ولكن في أحوالٍ أخرى، كالتي نعيشها اليوم، تبقى الخشية الأكبر، أن تكون مثل هذه الجلسة مجرّد "مسرحيّة" بأتمّ معنى الكلمة، يتواطأ فيها النواب، الذين يتشاركون بطولتها، على الشعب، الذي يفترض بهم تمثيله.
أما الهدف، فليس سوى توفير "إخراجٍ" جديد لعملية "التمديد"، التي يُقال في الكواليس أنّها وُضِعت على "النار"، خلافاً لكلّ ما يُقال في العَلَن، وبذريعة أنّها "أهون الشرّين"، تفاديًا لفراغٍ قد يؤدّي لانهيار الدولة ومؤسساتها!